يقصد بالإحالة تطبيق قواعد الإسناد المضمنة في القانون الأجنبي المختص بمقتضى قواعد إسناد القاضي المعروض عليه النزاع ، حيث تختلف قواعد الإسناد من دولة لأخرى، وهذا الاختلاف هو الذي يؤدي إلى ظهور مشكل الإحالة، كما هو الشأن بالنسبة لمادة الأحوال الشخصية في القانون المغربي التي يخضعها للقانون الوطني ، والبعض الآخر يخضعها لقانون الموطن، من هنا تثور مشكلة الإحالة ، فهل يتعين على القاضي أن يطبق قواعد قانونه ؟ أم قواعد القانون الأجنبي؟
المطلب الأول : أنواع التناوع بين القوانين
لاشك أن هناك نوعين من التنازع : إيجابي وسلبي.
ففي التنازع الإيجابي: تعطي كل من قاعدتي الإسناد المتنازعتين الاختصاص لقانونها الداخلي، فمثلا الحالة الشخصية للفرنسي المستوطن في انكلترا تخضع بمقتضى قاعدة الإسناد الفرنسية للقانون الفرنسي (قانون موطنه)، والمتفق عليه أن في حالة التنازع الإيجابي يطبق القاضي قانون دولته، أي إذا عرضت قضية تتعلق بالحالة الشخصية للفرنسي المستوطن في انكلترا أمام قاض فرنسي طبق هذا قاعدة الإسناد الفرنسية التي تجعل الحالة الشخصية خاضعة للقانون الوطني، وإذا عرضت القضية نفسها أمام قاضي انجليزي طبق قاعدة الإسناد الإنجليزية التي تجعل الحالة الشخصية خاضعة لقانون الموطن (وهو القانون الأنجليزي في هذا المثال).
أما في التنازع السلبي أو ما يسميه البعض بالإحالة فكل واحدة من قاعدتي الإسناد ، تنيط الاختصاص بالقانون الآخر، مثلا الحالة الشخصية للأنجليزي المستوطن في فرنسا تخضع بمقتضى قاعدة الإسناد الفرنسية (لقانون موطنه)، فمن الضروري أن نعرف القاضي هل سيقتصر فقط على تطبيق قواعد الإسناد في بلاده أم سيأخذ بعين الاعتبار قاعدة الإسناد الإجنبية أيضا؟
المطلب الثاني : نشأة نظرية الإحالة
إن كثيرا من النظم المقبولة في القانون الدولي الخاص تحل التنازع السلبي باللجوء إلى نظرية الإحالة، وقد ظهرت هذه النظرية في أواخر القرن 19 إثر قضية فورغو الشهيرة التي بتت فيها محكمة النقض الفرنسية بحكمها الصادر بتاريخ 24 يونيو 1878 ، وتتلخص القضية كما يلي :
كان فورغو ولدا غير شرعي أصله من بفاريا، نقل إلى فرنسا وهو في الخامسة من عمره وتوفي وعمره 68 سنة دون أن يكتسب في فرنسا موطنا رسميا ولذلك اعتبر أن موطنه الرسمي لم يزل في بافاريا، وبما أنه لم يترك أولادا فقد قام أقارب أمه يطالبون بتركته المنقولة طبقا لمقتضيات قانونا بافاريا، وعارضتهم في طلبهم إدارة أملاك الدولة الفرنسية التي ادعت بأن تركته تعود إلى الدولة الفرنسية، وحكمت محكمة استئناف بوردو لصالح أقارب أمه، فطلبت إدارة أملاك الدولة الفرنسية نقض الحكم، فحكمت محكمة النقض بأن قاعدة الإسناد في بافاريا تنص على أن انتقال التركة يخضع لقانون الموطن الواقعي للشخص وبما أن الموطن الواقعي لفورغو كان في فرنسا فإن القانون الفرنسي هو الذي يجب أن يطبق، وبما أن القانون الفرنسي لم يكن يمنح الحق في التوارث بين الإبن غير الشرعي وأقارب الأم فإن تركة فورغو يجب أن تعود إلى الدولة الفرنسية.
وخلاصة القول أنه بدلا من أن تفسر قاعدة الإسناد القائلة بأن الإرث يخضع للقانون الوطني للموروث و بأن المقصود منها هو قانون الإرث الوطني للموروث فسرت على أنها تعني بالقانون الوطني قاعدة الإسناد الوطنية، وهذه القاعدة تحيل بدورها على القانون الفرنسي الذي يقبل هذه الإحالة.
المطلب الثالث : الجدل الفقهي حول نظرية الإحالة
عارض الفقهاء في فرنسا نظرية الإحالة ومنهم الفقيه بارتان للأسباب التالية:
- إن قاعدة الإسناد هي قاعدة دولة القاضي الأجنبية، فحينما عينت قاعدة الإسناد الفرنسية القانون البافاري كانت تقصد القانون البافاري الداخلي الذي يعين الورثة.
-إن الإحالة تؤدي إلى حلقة مفرغة، لأنه إذا سلمنا بأن قاعدة الإسناد الفرنسية تحيل إلى قاعدة الإستاد البافارية وجب التسليم أن هذه بدورها تحيل إلى القانون الفرنسي أي قاعدة الإسناد الفرنسية، لا بل يمكن أن تحيل قاعدة الإسناد الأجنبية إلى قانون دولة ثالثة كمثال انجليزي مستوطن في بلجيكا تعرض قضية تتعلق بحالته الشخصية أمام القاضي الفرنسي، فتحيله قاعدة الإسناد الفرنسية إلى قاعدة الإسناد الأنجيليزية(قانون موطنه) وهذه تحيله بدورها على القاعدة البلجيكية قانون الموطن)، فإذا كانت هذه تحيل على قاعدة دولة رابعة لتسلسلت الإحالات إلى ما لا نهاية له وإن كانت تحيل بدورها إلى القانون الوطني أي القانون الأنجليزي فإننا نعود إلى الحلقة المفرغة.
المطلب الرابع : تقييم نظرية الإحالة
لعل القضاء الفرنسي ظل متمسكا بنظرية الإحالة، رغم المعارضة الشديدة للفقهاء ، حيث أصدرت محكمة النقض عدة أحكام في هذا المعنى بين 1910 و 1954، مما اضطرت معها المحاكم إلى الأخذ بما اتجهت إليه محكمة النقض.
لا شك أن هناك تشريعات تأخذ بنظرية الإحالة ، مثل القانون المدني الألماني في وذلك اتفاقيات لاهاي واتفاقيات جنيف لسنتي 1930 و1931 بشأن الأوراق التجارية حين هناك تشريعات تنص صراحة على استبعادها مثل القانون الإيطالي واليوناني.
المطلب الخامس : موقف المشرع المغربي من الإحالة
الملاحظ أن المشرع المغربي لم يتعرض لموضوع الإحالة، حيث أن القضاء في عهد الحماية كان قد رفض تطبيق الإحالة في ميدان الأحوال الشخصية مؤيدا في ذلك أغلب الفقهاء لأسباب تتلخص في وجوب احترام القانون الأجنبي الموضوعي الذي عينته قاعدة الإسناد المغربية بصورة مطلقة وانعدام قانون للقاضي في المغرب نظرا لتعدد قوانين الأحوال الشخصية وصبغتها الدينية.
وبعد الاستقلال ظهرت اتجاهات تنادي بإدخال فكرة القانون الدولي الخاص المغربي مع إمكانية قيام الشريعة الإسلامية في هذا المجال بدور قانون القاضي في ميدان الأحوال الشخصية، وإخضاع المسلمين في حالة وقوع الإحالة على القانون المغربي لأحكام قانون الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين أي لمدونة الأسرة، ولم يصدر عن القضاء المغربي الحديث إلى حد الآن أي إقرار صريح بقبول الإحالة أو رفضها، والذي يستفاد ضمنا من أحكام القضاء أن الإحالة غير معمول بها في القانون الدولي الخاص المغربي، بدليل أن القاضي المغربي لا يطبق في حالة تعيين قاعدة الإسناد المغربية قانونا أجنبيا لحكم النزاع إلا القواعد الموضوعية لهذا الأخير.
ويبدو أن نظرية الإحالة الهدف منها الوصول إلى تطبيق قانون القاضي من جديد لأنه أسهل من تطبيق القانون الأجنبي الذي يقتضي الرجوع إلى النصوص التشريعية والاجتهادات القضائية و أقوال الفقهاء في شأنها، وهو أمر غير يسير ، إضافة إلى أن تطبيق قانون القاضي يمثل عودة إلى مبدأ إقليمية القانون ويتماشى مع الروح الوطنية.