الجمهورية الخامسة في فرنسا
يعتبر ميلاد الجمهورية الخامسة نتيجة مباشرة للضعف الذي زامن الجمهورية الرابعة، التي تأسست على أنقاض الجمهورية الثالثة ومخلفات الحرب العالمية الثانية والتي لم تستطع بدورها أن تواجه بالجرأة التي تتطلبها الأحداث حركات التحرر التي ظهرت في مختلف المستعمرات الفرنسية.
وتشكل الجمهورية الخامسة تحولا جذريا في النظام الفرنسي الذي عرف هيمنة برلمانية لما يزيد عن 80 سنة.
ومن أجل فهم طبيعة النظام الذي أنشاه دستور 4 أكتوبر 1958، فإننا سنقوم بدراسة الملابسات والظروف التي أدت إلى تأسيس هذا النظام في الفرع الأول، وذلك قبل أن ننتقل إلى دراسة المؤسسات السياسية الحالية في الفرع الثاني.
1- تأسيس الجمهورية الخامسة
يشكل دخول دستور الجمهورية الخامسة حيز التنفيذ في 4 أكتوبر 1958 تتويجا لسلسل من الأحداث، انطلقت مع التمرد الذي شهدته الجزائر في 13 ماي 1958، والذي عجل بنهاية الجمهورية الرابعة والمصادقة على قانون 3 يونيو 1958 الذي فتح المجال لوضع دستور جديد لنظام جديد.
2- نهاية الجمهورية الرابعة
عدم الاستقرار الحكومي والتحالفات غير الطبيعية بين الأحزاب، جعل من نظام الجمهورية الرابعة نظاما ضعيفا أدى ببعض المهتمين إلى وصفها بجمهورية الأوهام، وجمهورية المتناقضات، والجمهورية غير المحبوبة. وقد تجلى ضعفها في انعدام توافق بين الأحزاب السياسية على وضع مقاربة شمولية لمعالجة ملف المستعمرات الفرنسية التي بدأت تعرف ظهور حركات للتحرر تكافح من اجل الاستقلال.
كان أكبر تحد واجه زعماء الجمهورية الرابعة، هو البحث عن حل سياسي للحرب التي تعرفها الجزائر. هكذا، وبينما كان البحث عن صيغة تجنب فرنسا ما وقع لها بالفيتنام، بدأ المتطرفون الفرنسيون في الجزائر يعبرون عن انشغالهم ونفاذ صبرهم من السياسة المتبعة من طرف الحكومة في هذه المنطقة. وسيشكل يوم 13 ماي 1958، بداية النهاية بالنسبة للجمهورية الرابعة، حيث شهدت الجزائر في هذا اليوم مظاهرة كبرى ادت إلى اقتحام مقر الحكومة هناك وانتهت بتكوين ما أطلق عليه المتمردون، لجنة الخلاص الوطني Comité de salut public، تحت قيادة الجنرال Salan، قائد القوات الفرنسية في الجزائر.
وحفاظا على ماء الوجه، فوضت الحكومة لنفس الجنرال السلطات المطلقة في الجزائر، وبهذه الصفة سيطلب رسميا عودة الجنرال دوغول إلى الحكم2. هذا الأخير سيعلن مباشرة عبر بلاغ صحفي عن استعداده "التحمل سلطات الجمهورية".
تطور الأحداث بشكل سريع، جعل زعماء الجمهورية الرابعة يشعرون بفقدان السيطرة عليها، وفي نفس الوقت إقتنع الكثير منهم بأن لا مناص من وضع سلطات الجمهورية في يد الجنرال رغم أنهم جميعا كانوا يحذرونه.
هكذا، وبعد استقالة حكومة Pfimlin، سيوجه رئيس الجمهورية René Coty خطابا في 29 ماي 1958 إلى البرلمان لإخباره بأنه قرر المناداة على "أشهر الفرنسيين" لرئاسة الحكومة، وبأنه سيستقيل من منصبه في حال عدم استجابة البرلمان لاختياره.
على إثر هذا القرار، دخل الجنرال دوكول في اتصالات مع رؤساء الفرق البرلمانية يومي 30 و31 ماي تلاهما الإعلان عن الحكومة التي ستحصل على ثقة الجمعية الوطنية بعد تصريح مقتضب للجنرال أمامها في فاتح يونيو ومباشرة عقب حصوله على الثقة سينتزع دوكول من هذه الجمعية التصويت على قانونين هامين :
- الأول يعطي لحكومته السلطات المطلقة لمدة 6 أشهر.
- أما الثاني فهو بمثابة وثيقة دستورية تكلف الحكومة بمهمة تعديل الدستور.
3- قانون 3 يونيو 1958
في مخالفة واضحة الفصل 90 من تستور 27 اکتوبر 1946 حول مسطرة تعديل الدستور، وذلك براي معظم فقهاء القانون الدستوري بفرنسا، أقر البرلمان بتاريخ 3 يونيو 1958 قانونا ذا قيمة دستورية يعهد بمقتضاء إلى الحكومة الجديدة المهمة مراجعة الدستور".
وبغض النظر عن النقاش الذي أثاره هذا القانون حول دستوريته او عدم دستوريته ، فإنه قد وضع مجموعة من الشروط الشكلية والجوهرية التي يجب أن تلتزم بها الحكومة أثناء قيامها بالمهمة التي أوكلت إليها من قبل البرلمان.
تتعلق الشروط الشكلية بضرورة استشارة الحكومة للجنة دستورية ثلثي أعضائها من البرلمان، وعرض مشروع التعديل على الاستفتاء. أما الشروط الجوهرية فتتضمن ضرورة التزام الحكومة بأن يكون الاقتراع العام هو مصدر السلطة، واحترام مبدأ الفصل بين السلطتين، ومبدأ مسؤولية الحكومة أمام البرلمان، واستقلالية السلطة القضائية عن السلطتين، وتنظيم العلاقات بين الجمهورية والشعوب المشاركة peuples associés.
تم تهيئ المشروع الأولي من قبل فريق من الخبراء تحت مسؤولية الحكومة، حيث نوقش من طرف لجن حكومية أو تابعة لها، قبل أن يعرض بعد مرور حوالي شهرين من المصادقة على قانون 3 يونيو، على أنظار اللجنة الاستشارية المكونة من 26 برلمانياء و13 عضوا تم تعيينهم من طرف الحكومة. وقد أسندت رئاسة هذه اللجنة إلى أحد أساتذة القانون الدستوري، الأستاذ Paul Reynaud.
دستور 1958 هو الجسيد لأفكار الجنرال دوكول، خاصة فيما يتعلق بدور رئيس الجمهورية في الظروف الاستثنائية وسلطاته، وحالات التنافي بين الانتساب للحكومة والعضوية في البرلمان، وهو أيضا نتاج لقناعات أحد أشد مناصري دوكول ووزير العدل في حكومته Michel Debre، في المقتضيات المتعلقة بعقلنة العمل البرلماني، كما أنه كذلك خلاصة التجربة وأفكار بعض زعماء الجمهورية الرابعة الذين التحقوا يحكومة الجنرال دوكول، في المسائل التي تهم الفصل بين مجال القانون والمجال التنظيمي، وتقنين المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان والمسطرة الخاصة بملتمس الرقابة.
وهو أخيرا ثمرة التوافقات التي قبل بها الجنرال دوكول مع هؤلاء القادة ، حول التقليص من سلطات رئيس الدولة في الظروف العادية والحفاظ على الطابع البرلماني النظام.
وعلى العموم، فإن دستور 1958 يتميز بالخصائص التالية:
1- تقوية الجهاز التنفيذي، والتي تتجسد في الوضعية الجديدة لرئيس الدولة من جهة الاختصاصات التنظيمية للحكومة من جهة ثانية. وتوسيع
2- عقلنة اشغال البرلمان، والتي يمكن ملاحظتها من خلال التنظيم الدقيق للمسؤولية الحكومية، والامتيازات الممنوحة للحكومة في علاقاتها مع البرلمان، والتقليص من عدد لجن البرلمان ومن مدة الدورات البرلمانية.