المؤسسات البريطانية الحالية
تبدو المؤسسات البريطانية الحالية وكأنها مؤسسات لم تعرف التغيير منذ قرون، والواقع أنها عرفت تحولات مهمة لكن هادئة. وكما تمت الإشارة إلى ذلك، فإن معظم القواعد التي تنظم المؤسسات البريطانية هي نتيجة لمواقف وممارسات ترسخت مير عشرات السنين إن لم تكن قرونا، وأصبحت بمثابة قواعد دستورية يتم احترامها من طرف الفاعلين السياسيين، لكن احترامها لا يعني أنها جامدة وغير قابلة للتغيير بل على العكس هي في تطور مستمر، بل يمكن للبرلمان البريطاني أن يعدلها إذا شاه كما تعدل القوانين العادية وبعبارة أخرى فإن المؤسسات السياسية البريطانية تتداخل فيها التجربة والتقاليد، التجديد والاستمرارية، التحولات دون القطيعة، وهو ما سنتعرف عليه من خلال دراسة المؤسسة الملكية والحكومة والبرلمان.
المطلب الأول : المؤسسة الملكية
تاريخ الحياة السياسية في بريطانيا، خلال القرون الأخيرة حافل بالتخلي التدريجي للمؤسسة الملكية عن اختصاصاتها لفائدة الحكومة والبرلمان، وقد عبر أحد الدستوريين البريطانيين (1867 Bagehot) من سلطات الملك بقوله : «الملك يملك حق إبداء الرأي والتشجيع والتحذير»، وبعبارة أخرى يسود ولا يحكم وبالرغم من أن المؤسسة الملكية فقدت الكثير من سلطاتها فإنها استطاعت مع ذلك، أن تصمد في الوقت الذي سقطت فيه الملكيات الأوربية الواحدة تلو الأخرى.
ويميز البريطانيون بين التاج "La Couronne" «الدولة» كمؤسسة دستورية وبين من يتربع على كرسي العرش.
وقد حدد قانون 1701 Acte detablissement القواعد التي يجب مراعاتها داخل الأسرة الملكية التقاد العرش (Windsor التي كانت تسمى إلى حدود 1917 هانوفر) حيث تعطى الأولوية للذكور ثم الإناث.
غير أن هذه القاعدة وقع تغييرها بعد صدور قانون 25 أبريل 2013 والذي التي أولوية الأبناء الذكور في وراثة العرش، كما تم إلغاء منع زواج أعضاء الأسرة المالكة الذين يحتمل تقلدهم العرش من زوج أو زوجة تعتنق الديانة الكاثوليكية. لكن اعتبارا لأن الملك في بريطانيا، هو في نفس الوقت رئيس للكنيسة الأنكليكانية فقد تم الإبقاء على القاعدة التي تنص بأن يكون الملك (ة) منتميا لنفس الديانة. ملكة بريطانيا الحالية، هي ملكة أيضا لسكوتلاندا وبلاد الغال وإيرلاندا الشمالية، كما أنها تعتبر رئيسة لمجموعة الكومنويلث Commonwealth'.
من الناحية النظرية، يتمتع الملك بعدة " امتيازات"، فهو غير مسؤول جنائيا أو مدنيا تطبيقا لمبدا : «الملك لا يمكنه أن يسيء التصرف Le Roi ne peut mal faire من جهة، كما أنه من جهة أخرى يتمتع بسلطة استدعاء وحل البرلمان والتصديق على القوانين (الملك يريد ذلك Le Roi le veut) وتعيين الوزير الأول وقيادة القوات المسلحة وتعيين الموظفين السامين وإبرام المعاهدات وإعلان الحرب أو السلم وحق العفو، لكن هذه السلطات، في الواقع، يمارسها باقتراح من الوزير الأول والحكومة، بل إن خطاب العرش بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية هو خطاب يتم تحريره من قبل الوزير الأول حيث تكتفي الملكة الحالية بقراءته أمام أعضاء مجلس اللوردات. نفس الملاحظة تنطبق على «المجلس الخاص» Conseil privé الذي وإن كان يعتبر مجلسا للتاج فإن أعضاءه يتم تعيينهم من طرف الحكومة.
المطلب الثاني : الحكومة
تعتبر الحكومة البريطانية وليدة " المجلس الخاص"، الذي كان يتكون من مستشاري الملك خلال القرن 17، والذي تحول مع مرور الوقت إلى مجلس مستقل من الملك إلى أن اخذ شكله النهائي الحالي. وتختلف بنية الحكومة البريطانية عن باقي أغلب حكومات دول العالم حيث تتكون من الوزارة Le ministère ومجلس الحكومة Le Cabinet.
فالوزارة تتشكل من حوالي 100 عضو، وتضم وزراء يسيرون قطاعات تختلف من حيث الأهمية، كما تضم وزراء بدون حقائب وكتاب دولة وكتاب مساعدين وكتاب برلمانيين. أما مجلس الحكومة Cabinet المنبثق عن الوزارة، فإنه يتألف من عدد محدود من الأعضاء (حوالي 20 مقعدا)، معظمهم من الشخصيات القيادية في الحزب الحاكم بالإضافة إلى كونهم برلمانيين ينتمي أغلبهم إلى مجلس العموم.
وسواء تعلق المر باعضاء الوزارة أو مجلس الحكومة، فإن اختيار هم لتقلد المناصب التي يشغلونها يتم من طرف الوزير الأول الذي هو في نفس الوقت زعيم الحزب ويمكنه أن يغيرهم أو يقيلهم حسب إرادته. وتعتبر وزارة العدل، التي يجب أن تؤول إلى عضو في مجلس اللوردات، إلى جانب وزارتي الخارجية والمالية من أهم الحقائب الوزارية، حيث تسند عادة إلى شخصيات وازنة داخل قيادة الحزب. أما اختصاصات الحكومة اتعود إلى مجلس الحكومة Cabinet، الذي يمارس جميع السلطات التنفيذية بشكل مطلق تحت قيادة الوزير الأول، الذي يتمتع بالإضافة إلى زعامته للحزب بمشروعية شعبية، من خلال حصول الحزب الذي قاده في الحملة الانتخابية على الأغلبية داخل مجلس العموم.
إن السلطات الواسعة التي يتمتع بها الوزير الأول البريطاني، سواء داخل الحزب الذي يتزعمه، أو داخل الحكومة أو في مجال السياسة العامة للبلاد، أو فيما يتعلق بالقرارات الكبرى، تعادل إن لم تتجاوز اختصاصات رئيس الدولة في النظام الرئاسي وهذا ما دفع البعض إلى وصفه ب «ملك» أو «ديكتاتور» منتخب".
بالإضافة إلى هذه السلطات التنفيذية، تضطلع الحكومة بدور أساسي في مجال التشريع حيث إن ما يفوق � من القوانين مصدرها الحكومة، كما أن الوزير الأول في بريطانيا يتمتع كذلك بحق حل البرلمان، حيث يمكنه أن يطلب من الملك حل مجلس العموم إذا استدعت ظروف معينة اللجوء إلى ذلك، مثل ما حدث خلال الولاية التشريعية الأخيرة عندما قامت الوزيرة الأولى Theresa May بحل مجلس العموم خلال سنة 2017 قبل ان يستكمل ولايته.
المطلب الثالث : البرلمان
يعتبر البرلمان البريطاني من أعرق برلمانات العالم إن لم يكن أعرفها، كما أن هذا المصطلح يعني عند البريطانيين الملك ومجلس اللوردات ومجلس العموم.
أولا : مجلس اللوردات
يشكل وجود هذا المجلس مفارقة في النظام السياسي البريطاني تعبر عن تقليدية البريطانيين ومدى تمسكهم بمظاهرها، كما انه يعتبر أشهر غرفة أرستقراطية. لقد كان هذا المجلس يتكون قبل إصلاح سنة 1999 من 759 نبيلا، يتوارثون القابهم وعضوية مجلس اللوردات، بالإضافة على 26 من الأساقفة، و12 من رجال القانون يكونون المحكمة العليا، و510 عضوا معينين مدى الحياة بمقتضي قانون 1958، الذي سمح لأول مرة بعضوية النساء في هذا المجلس.
وقد جاء إصلاح 1999 بتعديلات هامة، حول تركيبة هذه الغرفة لكنه لم يلغها. هكذا أصبح المجلس يتكون فقط من أعضاء معينين يصل عددهم إلى 616 عضوا، منهم 92 عضوا ينتمون إلى صنف النبلاء عن طريق الوراثة تم إختيارهم من طرف باقي زملائهم، و26 من الأساقفة و12 من رجال القانون، في حين احتفظ باقي النبلاء بالوراثة بالقابهم لكنهم فقدوا حق العضوية في المجلس.
بالنسبة لاختصاصات هذه الغرفة، يمكن القول أنه إلى حدود سنة 1911، كانت اختصاصاتها هي نفس الاختصاصات التي يتمتع بها مجلس العموم، لكن معارضتها للإصلاحات المصادق عليها من طرف مجلس العموم، أدت إلى إصدار قانون سنة 1911 يقلص من اختصاصاتها حتى لا تبقى أداة لعرقلة الإصلاحات. هكذا لم يعد بإمكانها أن توقف العمل لأكثر من سنتين بالقوانين المصادق عليها من طرف مجلس العموم والقوانين التي لها علاقة بالقضايا المالية.
وقد جاه إصلاح 1949 ليجهز عملها على ما تبقى لديها من اختصاصات تشريعية، حيث تم تخفيض مدة التوقيف إلى سنة واحدة، بالإضافة إلى حرمانها من إمكانية الاعتراض على الإصلاحات التي تضمنها البرنامج الانتخابي للحزب الذي حصل على الأغلبية من آخر انتخابات تشريعية.
وبالرغم من الانتقادات التي توجه إلى هذه الغرفة، باعتبارها فرقة خارج زمنها فإن الملاحظ أن الإصلاحات التي أدخلت عليها سنة 1999، المتمثلة في تعيين شخصيات من ذوي الكفاءات العالية انعكست إيجابا على مناقشات هذه المؤسسة وساهمت في تحسين جودة القوانين. وبالإضافة إلى الاختصاصات التشريعية، شكل مجلس اللوردات كذلك، من خلال فنة رجال القانون محكمة عليا في بريطانيا وذلك إلى حدود 2005، حيث صدر قانون يتعلق بإصلاح الدستور تنص بعض مقتضياته على إحداث محكمة عليا، تتشكل من فئة رجال القانون بمجلس اللوردات، حيث تم فصلهم عن هذا المجلس. لقد كان من الصعب، من منظور مبدأ فصل السلط تبرير أن تسند السلطة القضائية إلى لجنة، رغم أن أعضاءها رجال قانون وقضاة، تابعة لمجلس تشريعي.
ثانيا : مجلس العموم
يتألف مجلس العموم من 659 عضوا، يتم انتخابهم لمدة 5 سنوات عن طريق الاقتراع الأحادي الأسمى في دورة واحدة، وتستمر دورته البرلمانية حوالي سلة تبتدى في شهر نونبر بخطاب العرش يعلن من خلاله الوزير الأول عن نواياه وبرنامجه. يعتبر رئيس مجلس العموم الذي يحمل لقب Speaker " المتحدث"، وينتخب لمدة الولاية التشريعية، شخصية وطنية هامة حيث يمكن أن يعاد انتخابه رئيسا للمجلس حتى ولو كان لا ينتمي للأغلبية الجديدة، كما أنه يتمتع بصلاحيات واسعة حيث يمكنه أن يقبل أو يرفض التعديلات، بالإضافة إلى كونه يملك حق تعيين رؤساء اللجن البرلمانية، لكنه لا بصوت إلا في حال تعادل الأصوات داخل المجلس.
يعمل المجلس بواسطة لجن شبه دائمة عددها 10 تتكون من 50 عضوا على الأكثر تعود رئاستها في كل الحالات إلى عضو من الأغلبية"، كما يمكن للمجلس أن يكون لجنا للمراقبة Select Committes حيث تعمل على فحص مصاريف وتدبير وسياسية الوزارة أو الوزارات التي تدخل في اختصاصها. يتمتع مجلس العموم من الناحية النظرية بسلطات واسعة جدا، فهو الذي يصادق على مختلف القوانين ومن ضمنها القانون المالي، لكنه لا يستطيع أن يحدث مصاريف جديدة أو يرفع من قيمة المصاريف الموجودة، كما أن أغلب القوانين المعروضة عليه يكون مصدرها الحكومة.
وتشغل الأسئلة الشفوية الموجهة للحكومة والوزير الأول حيزا هاما من جلساته، حيث تخصص 45 دقيقة لها في بداية كل جلسة، كما أنه يملك حق إقالة الحكومة، لكن هذه الإمكانية لم تستعمل منذ سنة 1924 إلا مرة واحدة ضد حكومة العمالي Callaghan سنة 1979، وذلك باغلبية صوت واحد.
يتم تأطير كل فريق من طرف أعضاء من نفس الفريق يحملون لقب Whips «سوط» Fouet، وذلك تحت سلطة رئيس Chief Whips، مهمتهم التوجيه السياسي للنواب والحفاظ على الانضباط الحزبي أثناء التصويت وخلال المناقشة، كما أنهم يشاركون في وضع جدول أعمال المجلس ويساهمون في اختيار رئيسة Speaker، كما أن المنتمين منهم للأغلبية يشكلون جزءا من الوزارة.
من خلال الدراسة الوجيزة لمختلف المؤسسات السياسية البريطانية يتبين أن النظام البريطاني، كما يشتغل حاليا ابتعد كثيرا عن التصور الكلاسيكي للنظام البرلماني، حيث يمكن الحديث بدون مبالغة، ليس عن وجود فصل بين السلط، ولكن على الأصح عن تمركز لهذه السلط لفائدة حزب الأغلبية، وبشكل خاص الوزير الأول ومجلس الحكومة الذين يكونون مجلس إدارة الحزب. وهذا ما تؤكده قرارات Tony Blair الذي ادخل دولة بريطانيا في الحرب الأمريكية ضد العراق وذلك رغم معارضة الراي العام البريطاني، وأخيرا إقرار Boris Johnson بتوقف عمل البرلمان البريطاني من أجل تمرير مخطط خروج بريطانيا من الاتحاد دون اتفاق، وذلك في محاولة لمنع البرلمان من الاعتراض على مخططه. هذا التطور هو نتيجة لنظام الثنائية الحزبية الذي تعرفه بريطانيا، والذي يؤدي إلى حصر التناوب على الحكم منذ بداية القرن الماضي بين حزبي المحافظين والعمال باستثناء بعض الفترات التي عرف فيها النظام بعض الصعوبات.